إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية -3- هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
صفحة 1 من اصل 1
إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية -3- هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
لحظة الفصل والوصل بين القرآن والإبستمولوجيا
هنا بالتحديد لحظة الفصل والوصل ما بين القرآن والإبستمولوجيا المعاصرة. لحظة الفصل؛ لأن الطارق القرآني الغيبي على الإبستمولوجيا من شأنه تحقيق الفصل ما بين الإبستمولوجيا والوضعية، ولحظة الوصل بذات الوقت؛ لأن هناك ما هو مشترك بين القرآن والإبستمولوجيا وهو الوعي المفتوح. لأنه يسمو بهذه الإبستمولوجيا نحو المطلق الكوني والمطلق الإنساني وصولاً إلى “اللاقانون” إلى “اللامحددات” فالقرآن يتعامل مع الإنسان بوصفه كائناً كونياً يرقى في تكوينه ونزوعه اللامتناهي على البوتقة الوضعية وهذا ما سعت لاكتشافه أخيراً، وبعد عناء وضعي ماركسي شديد، مجموعةُ مدرسة (فرانكفورت) الذين حاولوا الخروج من أغلال الوضعية ولكنهم جنحوا إلى وجودية عبثية تفكيكية. فكون الإنسان المطلق كون مزدحم بما هو مرئي وبما هو غير مرئي، فالكل يبدأ محدداً في عالم المشيئة ثم ينتهي ليكون مطلقاً، بما في ذلك الإنسان والطبيعة. تلك لحظة تذهل فيها الإبستمولوجيا، ويغمى فيها على العقل وتصعق الروح. وأهم ما في لحظة الفصل والوصل بين مطلق القرآن والإبستمولوجيا العلمية تجاوز القرآن لاحتمالياتها ونسبيتها المفتوحة باتجاه غائية الخلق، غائية الخلق والتكوين، وبذات الوقت مجرى الخلق باتجاه الحق عبر صيرورة إلهية جدلية كونية منذ أن كان عرشه سبحانه وتعالى على الماء وإلى أن خلق الإنسان وعلَّمه البيان وجعل الآخرة ما بعد الموت مأوى له، فتلك صيرورة كونية تحقيقاً لغائية الخلق في حد ذاته من جهة وباتجاه الخلق نحو الحق من جهة أخرى وهذا منطق تركيب بعد التفكيك الإبستمولوجي تعجز عنه المدارس الوضعية مهما كانت إدانتها للمذهبية الوضعية الجامدة ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾([5]).وكذلك فإن الخلق بغايته المحددة ليس ملهاةً له ومزاحاً إلهياً: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾([6]).
في حين أن الإبستمولوجيا العلمية تستهدف التفكيك والتحليل ولازالت بعد عاجزة عن الوصول إلى التركيب فمدرسة فرانكفورت –مثلاً- قد فككت الوضعية المادية لتعطي مساحة للإنسان، ولكنها لم توضح في النهاية أي إنسان هذا الذي تريد أن تعيد تركيبه وتمنحه حريته، والسبب أنها تحاول إيجاد الحلول ضمن البنية الوضعية نفسها، بل إن الأفضل كثيراً من جهود مدرسة فرانكفورت ولكن عبر منهج أكثر إنسانية هو الناقد الأمريكي لبوتقة الإنسان، رويس، وموقف القرآن لأنه مطلق من هذه التفكيكية أنه يستصحبها في معرض التفكيك والتحليل والنقد ولكنه يضيف إليها التركيب الغائي. وهذه من أهم اللحظات المعرفية في الفصل والوصل؛ لأن التفكيك والتحليل ينتهي في ممارساته إلى تفكيك الإنسان نفسه ليجعل مصيره سجلاً احتمالياً ونسبياً مفتوحاً فتكرس الليبرالية الفردية الغريزية وتفقد حتى الروابط العائلية معناها، فالمنهج الإبستمولوجي بقدر ما هو مفيد على مستوى التفكيك هو الخطر بعينه إذا لم يتجه نحو التركيب. ولا يتم التركيب إلا عبر وعي كوني مطلق يصدر عن الإله الأزلي، تقدست إرادته وتباركت مشيئته وتنزه أمره.
وظيفة القرآن –بالنسبة للإبستمولوجيا المعاصرة- أنه يسد النقص في المعرفة الكونية بمنطق (الاستيعاب) و(التجاوز) معاً. رجوعاً إلى تركيبة القرآن نفسه بوصفه معادلاً معرفياً مطلقاً في حد ذاته لمطلق الإنسان ومطلق الوجود الكوني. فهو كتاب (متعالٍ) بمعنى مطلق تعطي نصوصه أو آياته الكونية حتى بما فيها من ملائكة وجن متاحات وعي لامتناه في كون لا متناه، فالخلق في القرآن يتجاوز خصائص المادة وتفاعلاتها المنضبطة إلى تفعيلها عبر حركة كونية لا متناهية.
من ذلك “النفس” التي هي ثمرة تفعيل المتقابلات الكونية؛ بحيث تجاوزت، بمرئياتها ولا مرئياتها وإرادتها ووعيها ونزوعها اللامتناهي إلى درجة المطلق، نسيجها الجسدي، وتوضح لنا سورة الشمس أبعاد التركيب الكوني للنفس الإنسانية التي لم تستدركها بعد المناهج الوضعية لعلم النفس والاجتماع: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾([7]). ومن ذلك النتاج المركّب من عنصرين (ماء وتراب) والناتج المختلف من عنصر واحد (ماء فرات وماء عذب) ومن ذلك عسل مختلف ألوانه، ومن ذلك لبن بين فرث ودم، خلق مركب لا متناه متجاوز كل طاقات الفهم العلمي وثوراته الفيزيائية أو البيولوجية ولكنه مقيد إلى (غاية).
لحظة الفصل والوصل بين القرآن والإبستمولوجيا، تعبر عن نفسها بمنطق الاستيعاب والتجاوز باتجاه المطلق المعرفي اللامتناهي. هنا بالتحديد يكون (منهج الجمع بين القراءتين)، مدخلاً لتأسيس قاعدة المفاهيم الكونية المطلقة والجامعة؛ أي (القراءة الكلية) والدخول في عالم الكليات. حيث يكون الجمع ما بين القراءة بالله خالقاً والقراءة مع الله معلماً بالقلم الموضوعي فالأولى قراءة ربانية متعالية وصولاً إلى اللامتناهي والثانية قراءة موضوعية نسبية وصولاً إلى المحددات.
ومدخل القراءة الأولى ليس مجرد الرؤية في ظواهر المخلوقات أو آيات الكون المتحرك لنستدل بها على وجود الخالق وأسمائه الحسنى مدبراً وخالقاً ومبدعاً ليتحقق لنا الإيمان به. ولا يتطلب الإيمان الصعود إلى مرحلة القراءة الأولى، فمقوماته بالنظر متوافرة لكل الناس، منذ أن خلقهم الله وإلى اليوم. فخاصية القراءة الأولى قراءة في “الإرادة الإلهية” المتبدية في ظواهر الخلق والحركة. أما القراءة الثانية، فهي قراءة في (ظواهر الخلق والحركة) نفسها بحيث نتعرف على قوانينها وتشيئها ونسيطر عليها، فالقراءة الأولى قراءة في عالم (الإرادة الإلهية) والقراءة الثانية في عالم (المشيئة الإلهية).
فالجمع بين القراءتين ليس كما ذهب إليه البعض قراءة في كتابين: الأول كتاب القراءة والوحي، والثاني كتاب الكون المتحرك؛ بحيث تفضي قراءة القرآن إلى الكليات وتفضي قراءة الكون المتحرك إلى التفاصيل، ثم تفضي بنا القراءتان إلى الإيمان. ففي هذا القول تبسيط لحقيقة هذا المنهج، وتضييع له بذات الوقت.
فالإنسان بالقراءة الثانية يتعرف على الظواهر الطبيعية ويقرأ قوانينها ويتعرف على التاريخ والتوزيعات الجغرافية والبشرية وكافة أنواع العلوم، مثله في ذلك مثل أي إنسان في كل مكان في العالم وفي أي مدرسة أو جامعة.
أما القراءة الأولى، فإنها ليست معنية بذلك ولا تبحث في القرآن عن دالة أو دلالات لهذه الظواهر في ما يسمونه التفسير العلمي للقرآن، وإنما تبحث القراءة الأولى في أمر آخر هو (الإرادة الإلهية المرتبطة بالحكمة) في كل ذلك ومن كل ذلك والمؤشرات الدالة على ما يتجاوز قدرات العلم البشري، كمؤشرات وليس كمعرفة، فما جئنا به في سورة الرعد أو سورة فاطر أو عندما يحدثنا القرآن عن العسل أو اللبن أو النفس إنما هي (مؤشرات) للدلالة على اللامتناهيات الخلقية، وليس مساقات تحصيل علمي؛ فللتحصيل العلمي شروطه الموضوعية العلمية، فلا نكون كمن يسأل الرسول(ص) عن الأهلة فذاك دخول للبيوت من غير أبوابها.
مقاربة فهم الإرادة الإلهية عبر القراءة الأولى من القرآن والمتحققة في ظواهر الوجود وحركتها، مكانها وزمانها، لا تعني قط –كما فهم البعض- مضاهاة القرآن ككتاب مقروء بالكون ككتاب متحرك. وهذا ما يزعجني في ما انتهى إليه الذين تناولوا كتاباتي حول الجمع بين القراءتين منذ عام 1979 وإلى اليوم.
وتعلُم القراءة الأولى لا يتم عبر منهج موضوعي محدد بشروط، وإنما يستمد القراءة الأولى من طبيعتها بوصفها قراءة بالله، تتم بتقوى الله في ما نقدر عليه، وبرجاء رحمة الله وغفرانه في ما لا نستطيع. فالقراءة الأولى قراءة (عبودية)، لا ينالها من يريد علوّاً في الأرض وطغياناً، ولا ينالها من يفسد في الأرض ويسفك الدماء… ومَرَاقِيها لا تقل عن مشقة المراقي العلمية الاختبارية في معمل الكيمياء، فلكل درب مسالكه ومشاقه، العابد يلح على الله كما يلح العالم على المادة ويحللها ويفككها.
ولا تعتبر نتائج القراءة الأولى المستمدة من منهج غيبي موجهات ملزمة لمن يستمع إليها، إلا أن يسمعها وتقع في روعة ويكون له نصيب فيها، علماً بأن القراءة الأولى لا تعتمد على تأويلات ذاتية باطنية؛ إذ تستند إلى مرجعياتها في القرآن نفسه، وهي مرجعيات ندخل إليها بعد الهدى الإلهي ﴿إقرأ بإسم ربك الذي خلق﴾ متعززين فيها بآليات حديثة ومستحدثة لفهم القرآن وبما يقارب النهج الإبستمولوجي نفسه. فبهذا النهج يتعزز الفهم ولكن ليست هذه الآليات المساعدة هي المدخل الحقيقي؛ إذ إنها معززة ومساندة ومساعدة، مثال الحفر المعرفي والألسنية المعاصرة والتاريخانية، بحيث نستدل على الوحدة المنهجية العضوية الضابطة لكل آيات الكتاب وامتناع فعل الناسخ والمنسوخ وفعل المترادف والمشترك في لغة القرآن، وإعادة اكتشاف معاني، بوجوه أخرى، لذات النص القرآني المطلق إنطلاقاً من أن القرآن مكنون، ومجيد، وكريم، ومطلق، وكوني متميز عن سائر الكتب السابقة عليه، بوصفه كتاب الأرض الحرام وليس المقدسة، والمتنزل مع خاتم الرسل والأنبياء(ص) الذي آتاه الله السبع المثاني والقرآن العظيم، وأيده بالروح القدس وجعله أول المسلمين، وميَّز رسالته بخصائص لم تتوافر لمن قبله ولا تتوافر لمن بعده.
فالآليات المعرفية الإبستمولوجية المعاصرة تشكل قوة إسناد لدعم القراءة الأولى ولكنها ليست مصدرها؛ لأن مصدر القراءة الأولى يُستمد من ذات طبيعة القراءة الأولى؛ أي العبودية لله سبحانه وتعالى.
هنا بالتحديد لحظة الفصل والوصل ما بين القرآن والإبستمولوجيا المعاصرة. لحظة الفصل؛ لأن الطارق القرآني الغيبي على الإبستمولوجيا من شأنه تحقيق الفصل ما بين الإبستمولوجيا والوضعية، ولحظة الوصل بذات الوقت؛ لأن هناك ما هو مشترك بين القرآن والإبستمولوجيا وهو الوعي المفتوح. لأنه يسمو بهذه الإبستمولوجيا نحو المطلق الكوني والمطلق الإنساني وصولاً إلى “اللاقانون” إلى “اللامحددات” فالقرآن يتعامل مع الإنسان بوصفه كائناً كونياً يرقى في تكوينه ونزوعه اللامتناهي على البوتقة الوضعية وهذا ما سعت لاكتشافه أخيراً، وبعد عناء وضعي ماركسي شديد، مجموعةُ مدرسة (فرانكفورت) الذين حاولوا الخروج من أغلال الوضعية ولكنهم جنحوا إلى وجودية عبثية تفكيكية. فكون الإنسان المطلق كون مزدحم بما هو مرئي وبما هو غير مرئي، فالكل يبدأ محدداً في عالم المشيئة ثم ينتهي ليكون مطلقاً، بما في ذلك الإنسان والطبيعة. تلك لحظة تذهل فيها الإبستمولوجيا، ويغمى فيها على العقل وتصعق الروح. وأهم ما في لحظة الفصل والوصل بين مطلق القرآن والإبستمولوجيا العلمية تجاوز القرآن لاحتمالياتها ونسبيتها المفتوحة باتجاه غائية الخلق، غائية الخلق والتكوين، وبذات الوقت مجرى الخلق باتجاه الحق عبر صيرورة إلهية جدلية كونية منذ أن كان عرشه سبحانه وتعالى على الماء وإلى أن خلق الإنسان وعلَّمه البيان وجعل الآخرة ما بعد الموت مأوى له، فتلك صيرورة كونية تحقيقاً لغائية الخلق في حد ذاته من جهة وباتجاه الخلق نحو الحق من جهة أخرى وهذا منطق تركيب بعد التفكيك الإبستمولوجي تعجز عنه المدارس الوضعية مهما كانت إدانتها للمذهبية الوضعية الجامدة ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾([5]).وكذلك فإن الخلق بغايته المحددة ليس ملهاةً له ومزاحاً إلهياً: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾([6]).
في حين أن الإبستمولوجيا العلمية تستهدف التفكيك والتحليل ولازالت بعد عاجزة عن الوصول إلى التركيب فمدرسة فرانكفورت –مثلاً- قد فككت الوضعية المادية لتعطي مساحة للإنسان، ولكنها لم توضح في النهاية أي إنسان هذا الذي تريد أن تعيد تركيبه وتمنحه حريته، والسبب أنها تحاول إيجاد الحلول ضمن البنية الوضعية نفسها، بل إن الأفضل كثيراً من جهود مدرسة فرانكفورت ولكن عبر منهج أكثر إنسانية هو الناقد الأمريكي لبوتقة الإنسان، رويس، وموقف القرآن لأنه مطلق من هذه التفكيكية أنه يستصحبها في معرض التفكيك والتحليل والنقد ولكنه يضيف إليها التركيب الغائي. وهذه من أهم اللحظات المعرفية في الفصل والوصل؛ لأن التفكيك والتحليل ينتهي في ممارساته إلى تفكيك الإنسان نفسه ليجعل مصيره سجلاً احتمالياً ونسبياً مفتوحاً فتكرس الليبرالية الفردية الغريزية وتفقد حتى الروابط العائلية معناها، فالمنهج الإبستمولوجي بقدر ما هو مفيد على مستوى التفكيك هو الخطر بعينه إذا لم يتجه نحو التركيب. ولا يتم التركيب إلا عبر وعي كوني مطلق يصدر عن الإله الأزلي، تقدست إرادته وتباركت مشيئته وتنزه أمره.
وظيفة القرآن –بالنسبة للإبستمولوجيا المعاصرة- أنه يسد النقص في المعرفة الكونية بمنطق (الاستيعاب) و(التجاوز) معاً. رجوعاً إلى تركيبة القرآن نفسه بوصفه معادلاً معرفياً مطلقاً في حد ذاته لمطلق الإنسان ومطلق الوجود الكوني. فهو كتاب (متعالٍ) بمعنى مطلق تعطي نصوصه أو آياته الكونية حتى بما فيها من ملائكة وجن متاحات وعي لامتناه في كون لا متناه، فالخلق في القرآن يتجاوز خصائص المادة وتفاعلاتها المنضبطة إلى تفعيلها عبر حركة كونية لا متناهية.
من ذلك “النفس” التي هي ثمرة تفعيل المتقابلات الكونية؛ بحيث تجاوزت، بمرئياتها ولا مرئياتها وإرادتها ووعيها ونزوعها اللامتناهي إلى درجة المطلق، نسيجها الجسدي، وتوضح لنا سورة الشمس أبعاد التركيب الكوني للنفس الإنسانية التي لم تستدركها بعد المناهج الوضعية لعلم النفس والاجتماع: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾([7]). ومن ذلك النتاج المركّب من عنصرين (ماء وتراب) والناتج المختلف من عنصر واحد (ماء فرات وماء عذب) ومن ذلك عسل مختلف ألوانه، ومن ذلك لبن بين فرث ودم، خلق مركب لا متناه متجاوز كل طاقات الفهم العلمي وثوراته الفيزيائية أو البيولوجية ولكنه مقيد إلى (غاية).
لحظة الفصل والوصل بين القرآن والإبستمولوجيا، تعبر عن نفسها بمنطق الاستيعاب والتجاوز باتجاه المطلق المعرفي اللامتناهي. هنا بالتحديد يكون (منهج الجمع بين القراءتين)، مدخلاً لتأسيس قاعدة المفاهيم الكونية المطلقة والجامعة؛ أي (القراءة الكلية) والدخول في عالم الكليات. حيث يكون الجمع ما بين القراءة بالله خالقاً والقراءة مع الله معلماً بالقلم الموضوعي فالأولى قراءة ربانية متعالية وصولاً إلى اللامتناهي والثانية قراءة موضوعية نسبية وصولاً إلى المحددات.
ومدخل القراءة الأولى ليس مجرد الرؤية في ظواهر المخلوقات أو آيات الكون المتحرك لنستدل بها على وجود الخالق وأسمائه الحسنى مدبراً وخالقاً ومبدعاً ليتحقق لنا الإيمان به. ولا يتطلب الإيمان الصعود إلى مرحلة القراءة الأولى، فمقوماته بالنظر متوافرة لكل الناس، منذ أن خلقهم الله وإلى اليوم. فخاصية القراءة الأولى قراءة في “الإرادة الإلهية” المتبدية في ظواهر الخلق والحركة. أما القراءة الثانية، فهي قراءة في (ظواهر الخلق والحركة) نفسها بحيث نتعرف على قوانينها وتشيئها ونسيطر عليها، فالقراءة الأولى قراءة في عالم (الإرادة الإلهية) والقراءة الثانية في عالم (المشيئة الإلهية).
فالجمع بين القراءتين ليس كما ذهب إليه البعض قراءة في كتابين: الأول كتاب القراءة والوحي، والثاني كتاب الكون المتحرك؛ بحيث تفضي قراءة القرآن إلى الكليات وتفضي قراءة الكون المتحرك إلى التفاصيل، ثم تفضي بنا القراءتان إلى الإيمان. ففي هذا القول تبسيط لحقيقة هذا المنهج، وتضييع له بذات الوقت.
فالإنسان بالقراءة الثانية يتعرف على الظواهر الطبيعية ويقرأ قوانينها ويتعرف على التاريخ والتوزيعات الجغرافية والبشرية وكافة أنواع العلوم، مثله في ذلك مثل أي إنسان في كل مكان في العالم وفي أي مدرسة أو جامعة.
أما القراءة الأولى، فإنها ليست معنية بذلك ولا تبحث في القرآن عن دالة أو دلالات لهذه الظواهر في ما يسمونه التفسير العلمي للقرآن، وإنما تبحث القراءة الأولى في أمر آخر هو (الإرادة الإلهية المرتبطة بالحكمة) في كل ذلك ومن كل ذلك والمؤشرات الدالة على ما يتجاوز قدرات العلم البشري، كمؤشرات وليس كمعرفة، فما جئنا به في سورة الرعد أو سورة فاطر أو عندما يحدثنا القرآن عن العسل أو اللبن أو النفس إنما هي (مؤشرات) للدلالة على اللامتناهيات الخلقية، وليس مساقات تحصيل علمي؛ فللتحصيل العلمي شروطه الموضوعية العلمية، فلا نكون كمن يسأل الرسول(ص) عن الأهلة فذاك دخول للبيوت من غير أبوابها.
مقاربة فهم الإرادة الإلهية عبر القراءة الأولى من القرآن والمتحققة في ظواهر الوجود وحركتها، مكانها وزمانها، لا تعني قط –كما فهم البعض- مضاهاة القرآن ككتاب مقروء بالكون ككتاب متحرك. وهذا ما يزعجني في ما انتهى إليه الذين تناولوا كتاباتي حول الجمع بين القراءتين منذ عام 1979 وإلى اليوم.
وتعلُم القراءة الأولى لا يتم عبر منهج موضوعي محدد بشروط، وإنما يستمد القراءة الأولى من طبيعتها بوصفها قراءة بالله، تتم بتقوى الله في ما نقدر عليه، وبرجاء رحمة الله وغفرانه في ما لا نستطيع. فالقراءة الأولى قراءة (عبودية)، لا ينالها من يريد علوّاً في الأرض وطغياناً، ولا ينالها من يفسد في الأرض ويسفك الدماء… ومَرَاقِيها لا تقل عن مشقة المراقي العلمية الاختبارية في معمل الكيمياء، فلكل درب مسالكه ومشاقه، العابد يلح على الله كما يلح العالم على المادة ويحللها ويفككها.
ولا تعتبر نتائج القراءة الأولى المستمدة من منهج غيبي موجهات ملزمة لمن يستمع إليها، إلا أن يسمعها وتقع في روعة ويكون له نصيب فيها، علماً بأن القراءة الأولى لا تعتمد على تأويلات ذاتية باطنية؛ إذ تستند إلى مرجعياتها في القرآن نفسه، وهي مرجعيات ندخل إليها بعد الهدى الإلهي ﴿إقرأ بإسم ربك الذي خلق﴾ متعززين فيها بآليات حديثة ومستحدثة لفهم القرآن وبما يقارب النهج الإبستمولوجي نفسه. فبهذا النهج يتعزز الفهم ولكن ليست هذه الآليات المساعدة هي المدخل الحقيقي؛ إذ إنها معززة ومساندة ومساعدة، مثال الحفر المعرفي والألسنية المعاصرة والتاريخانية، بحيث نستدل على الوحدة المنهجية العضوية الضابطة لكل آيات الكتاب وامتناع فعل الناسخ والمنسوخ وفعل المترادف والمشترك في لغة القرآن، وإعادة اكتشاف معاني، بوجوه أخرى، لذات النص القرآني المطلق إنطلاقاً من أن القرآن مكنون، ومجيد، وكريم، ومطلق، وكوني متميز عن سائر الكتب السابقة عليه، بوصفه كتاب الأرض الحرام وليس المقدسة، والمتنزل مع خاتم الرسل والأنبياء(ص) الذي آتاه الله السبع المثاني والقرآن العظيم، وأيده بالروح القدس وجعله أول المسلمين، وميَّز رسالته بخصائص لم تتوافر لمن قبله ولا تتوافر لمن بعده.
فالآليات المعرفية الإبستمولوجية المعاصرة تشكل قوة إسناد لدعم القراءة الأولى ولكنها ليست مصدرها؛ لأن مصدر القراءة الأولى يُستمد من ذات طبيعة القراءة الأولى؛ أي العبودية لله سبحانه وتعالى.
rahmani yassine- عدد المساهمات : 252
نقاط : 362
تاريخ التسجيل : 02/08/2009
العمر : 41
الموقع : http://rahmaniastro.wordpress.com/
مواضيع مماثلة
» إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية -4- هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
» إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية -5- هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
» إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية -6- هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
» إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية -7- هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
» إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية القراءات التي تستصحب في هذا البحث هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
» إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية -5- هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
» إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية -6- هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
» إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية -7- هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
» إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية القراءات التي تستصحب في هذا البحث هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى