إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية -6- هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
صفحة 1 من اصل 1
إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية -6- هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
نهايات الجهد العملي للمنهج:
ثم نأتي لأخطر تساؤل حول النتائج والنهايات العملية لأخذنا بهذا المنهج وإعادة طرح المعرفة الدينية مجدداً بوجه المعرفة الوضعية. هل يعني ذلك أننا أمام مشروع إسلامي حضاري عالمي يستوجب التنظيم؟
يجب أن ندرك مسبقاً أن معركة الدين ضد الوضعية، حتى في حال الطرح الديني المعرفي المنهجي بطاقة القراءتين في القرآن، واتساع الفهم لجدلية الغيب والإنسان والطبيعة، هذه المعركة ليس من شأنها أن تُحسَم في هذه الدنيا التي أحيانا الله فيها مرتين وأماتنا مرتين، أو يحيينا ويميتنا طالما أننا لا نتذكر النشأة الأولى، فالغالب على الناس هو عدم الاستجابة بالرغم من الرسل والنبيين، الأمر الذي اقتضى تدخل الله مرتين: الأولى في الحقبة اليهودية الإسرائيلية والثانية في الحقبة الإسلامية العربية ضمن منطق الاصطفاء للأقوام والأمكنة فكان النصر في الحالتين نصراً إلهياً وليس بشرياً والحالتان يستحيل تكرارهما فكل ما نفعله عبر جهدنا المعرفي هو أن نحافظ على إرث التأسيس وأن ندعم بنيانه ولا يتبقى منه بعد ذلك سوى التدافع العربي-الإسرائيلي تحت المظلة الإسلامية اليهودية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ﴿وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾([8]). فالسابقون السابقون هم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ولا يبقى بالتساوي إلا أصحاب اليمين بعد أن يستكثر الجن من الإنس. فكل ما في الدنيا هشيم تذروه الرياح، وغالباً ما يفشل البشر في اكتشاف طريق الحق أو يكتشفونه ويرفضونه.
قد سخر الله للإنسان ومنذ بدء استخلافه الآدمي مستويات ثلاث، في عوالم ثلاث: عالم الأمر والملأ الأعلى حيث كان آدم وهبط دون ذلك، ثم عالم الإرادة حيث كان بنو إسرائيل، القرية الرغدة وشق البحر وهبطوا دون ذلك، ثم عالم المشيئة وهبط العرب دون ذلك، فترى الفتن والخطوب علهم يرجعون، وجزاء كل سيئة مثلها إلا من رحم ربي. فقاعدة المفاهيم الإسلامية لها نسقها الخاص وحضارتها الخاصة. غير أن أوضاع مجتمعات ما بعد الصناعة والاستقطابات العالمية للإنسان لم تفد في حل مشكلاتها عبر القياس على المجتمعات البدوية والرعوية والزراعية والتجارية والحرفية ما قبل الصناعة.
ولذلك ركز الخطاب القرآني بتوسع على الحالتين الإسرائيلية والعربية بنفس المستوى تقريباً الذي ركّز فيه على حال الأقوام من بعد نوح حتى شُبِّه القرآن لدى البعض بأنه يولي تلك الأقوام الحيّز الأكبر من اهتماماته تاركاً لمن تبقى متاهات تتعلق بالتأسي والامتداد، ومنهم من قال: إنه خطاب عربي أو يعنى بالحقبة النبوية الشريفة وما قبلها ولا يتطرق لما سيأتي في مستقبل متغيرات الأزمنة والأمكنة. كما أن التركيز هو دائماً على مواجهة الشرك الصنمي البواح، والتأكيد بعد ذلك على وحدانية الله والبعث الأخروي وطرح موجبات العبور الصالح في الدنيا. فكأنما القرآن هو مستودع هذه الرباعية فقط (نبذ الشرك –وحدانية الله- العمل الصالح- البعث الأخروي).
فالأمثلة القرآنية أمثلة تخاطب مجتمعات ما قبل الصناعة وتركيب الأسرة الزراعية والريفية القبلية، وحتى البحرية التي تقوم على الصيد ومسخرات الحمير والبغال والخيل، وتخوف ركوب البحر، حتى أن القرآن ليتماهى مع بعض المظاهر الاجتماعية والسلوكية في تلك المجتمعات ما قبل الصناعة؛ إذ لم يتطرق لتحريم الرق بالمستوى الذي حرّم به لحم الخنزير، أو تعدد الزوجات، وبدا أنه يقر دونية المرأة في الشهادة مع فرض الخمار عليها إلخ… ما يجعل فقهاء الإسلام المعاصرين في حرج من أمرهم تجاه المشكلات النوعية المتجددة؛ بحيث إن الفقيه المتمكن الذي يُستشهد بآرائه هو فقط من يكون قادراً على فهم واسترجاع أحوال تلك المجتمعات السالفة ثم الاجتهاد في المشكلات المعاصرة بالقياس عليها وهكذا أصبح “القياس” أحد الأصول بعد القرآن والسنة والإجماع.
إضافة إلى أن “فرض” الدين على المجتمع بالمواصفات التاريخية السابقة يحتاج إلى تدخل إلهي، سواء أكان تدخلاً محسوساً ملموساً كما كان في الحقبة اليهودية الموسوية، أو تدخلاً غيبياً كما كان في مطلع الحقبة الإسلامية الأمية المحمدية الأولى. ويجب أن نلحظ بوضوح أن كافة النبوّات لم تجد الاستجابة المطلوبة من الشعوب والأقوام ما عدا نبوّة موسى ونبوّة خاتم الرسل والنبيين، وأتى الاستثناء عبر التدخل الإلهي، المحسوس ثم الغيبي: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ﴾([9]).
فالذي يتبقى من الدين هو إرث عام يتداخل مع الطبائع البشرية ومكونات العرف والثقافة إلى مستوى التحريفات في كثير من الأحيان، أي تحول الدين من معرفة إلى أيديولوجيا تخالطها الكثير من الأفكار.
غير أنه يتبقى أمر واحد للحفاظ على الدين، وهو التدافع الذي من دونه لهدمت دور العبادة، وليس خربت بفعل المعارك العسكرية. والهدم إنصراف، بالتدافع تبقى جذوة الدين عبر العصبيات: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾([10]). هذا تدافع عالمي عام غير أن التدافع الأكثر فعالية هو التدافع الخاص ما بين العرب تحت مظلة الإسلام والإسرائيلين تحت مظلة اليهودية أياً كان فهم المتدافعين لدينهم في إطار التثبيت العصبوي. ويرتبط الأمر هنا باصطفاء الأرض والبشر ومحددات الزمان والمكان –كما ألمحنا سابقاً- هكذا نجد:
أن إعادة إنتاج الحقبة النبوية الشريفة بالنسبة للمسلمين، أو إعادة إنتاج الحقبة الموسوية بالنسبة لليهود، وبالقوة البشرية الذاتية في ما تطرحه الحركات القائمة اليوم أمر خارج موجبات ومقومات ما تبقى من الإرث الديني العام.
غير أن هناك ممكناً ملحاً وضرورياً يُستنهض تلقائياً وبتقدير إلهي بموجب التدافع العربي-الإسلامي بوجه الإسرائيلي اليهودي، كما أوضحت مقدمة سورة الإسراء ونهايتها ومقدمة سورة الحشر، وهو التمسك بالدين نفسه على أن يتجه علماء الأمة لترقية وإحكام ثوابت هذا الدين، بداية من التأكيد على القيمة المعرفية للإيمان بالله الواحد الأحد لإظهار الرؤية الكونية التي يرتبط بها مصير الإنسان الكوني منذ ما قبل ميلاده وإلى ما بعد موته، كبديل عن الرؤية الوضعية. وهنا يأتي دور إسلامية المعرفة متى فُهِمَت في إطار القرآن ومطلقه، وبما يعادل مطلق الإنسان ومطلق الوجود، وعبر الجمع بين القراءتين والاستهداء بالعلاقة الجدلية ما بين الغيب والإنسان والطبيعة واسترداد العلم من براثن القبضة الوضعية، حيث يتعزز الدين حين يحلق العلماء بعلمهم في رحاب الكونية والكون:
﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾([11]). ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾([12]).
ولكن حين يجنح بعض الوضعيين لاستلاب العلم باتجاه الشيئية بما في ذلك تحويل الإنسان إلى شيء وتجريد العلم من كونيته ندخل جميعاً في البوتقة الظلامية، فيأتي الدين مجدداً ليسترد بضاعته بنفي الوضعية عنها، وهذا هو أساس إسلامية المعرفية؛ أي المعرفية الكونية غير الوضعية.
وقد بدأت الحضارة الغربية –كما ذكرنا- في ارتياد أولى مسالك الطريق ولكن ليس باتجاه الكونية بعد، ولكن بحصار الوضعية كفلسفة للعلوم الطبيعية والإنسانية بداية بحلقة فينا وامتداداً إلى مدرسة فرانكفورت…والظاهر في الأولى (فينا) التركيز على تفكيك دغمائية العلوم الطبيعية، كما أن الظاهر في مدرسة (فرانكفورت) تفكيك المادية الوضعية الجدلية. غير أن هذا التفكيك ذو الطبيعة الإبستمولوجية المنفتحة لازال في إطار الوضعية ولم يتم التخلص منها بعد.
فحين يسترد الدين المعرفة العلمية إليه باتجاه الكونية ويبرئها من الوضعية يكون قد قام بعملين مزدوجين في كل واحد، فمن ناحية يدين الصراع اللاهوتي المسيحي مع العلم، ومن ناحية أخرى يدين توجهات الوضعية في العلم، فلا تكون المعرفة بعد ذلك إلا إسلامية، مبرئاً الدين من اللاهوت بذات الوقت الذي يبرئ فيه العلم من الوضعية.
فمشكلة الوضعية أنها قيَّدت العلم بمخططها الذي رفض التعامل مع الظواهر التي لم ترتق أدواته للتعرف عليها وقياسها مخبرياً، وفي حمى رفضه لها يتناسى أنها ظواهر حية في حين أن مهمة العلم الدائمة أن يتعرف على ما لم يتعرف عليه بعد، وإلا أصبح العلم مالكاً للحقائق وكفّ أن يكون علماً.
فنحن في عصر العلم والعالمية وقد تغيرت نوعياً إشكاليات الفكر والواقع. هنا تقف إسلامية المعرفة بكامل أطرها المنهجية لتطرح البديل المتجاوز للوضعية في عصر العلم والعالمية؛ حيث نعيد فهم ديننا وفي هذا الإطار بوصفه “عالمية خطاب”، “وحامية كتاب” و “شرعة تخفيف ورحمة” بتوجه إلى كافة مجتمعات العالم المعاصر، باستيعاب وتجاوز لكافة المناهج المعرفية والأنساق الحضارية، وبما يؤمِّن التداخل بالوعي مع إشكاليات العالم المعاصر والتي لا تجد حلاً موضوعياً لها إلا بانتقال الإنسان من سجن الوضعية إلى آفاق الكونية، عبر كتاب كوني هو القرآن بالذات.
هذه هي الكلية الضابطة لنسيج قواعد المفاهيم التي نستمدها من القرآن، وعبر الاستنباط وإعمال القراءة الأولى للإحاطة بالمتغيرات خلافاً للخطاب القرآني المبسط والمباشر الذي توجه للأميين العرب في حينها؛ أي خطاب ما قبل المنهجية المستمدة من القرآن نفسه وقبل استكمال الوحدة العضوية المتداخلة للعالم أجمع وما قبل الصناعة؛ ولهذا قلنا بالعالميتين: الإسلامية الأمية الأولى، ثم الإسلامية العالمية الثانية، واستنادها إلى منهجية القرآن بمستوى معرفي معاصر، والإرث عن خاتم الرسل والنبين، وليس رسالة ثانية وذك بموجب سورة فاطر (الآيات 31 و 32) وبحكم مجيدية القرآن ومكنونيته وكرم عطائه المتجدد.
إن تفعيل هذه النقاط، أو المرتكزات أو الأساسيات يتطلب جهداً (جماعياً) من ناحية ومؤسسياً من ناحية أخرى. وقد قامت
ثم نأتي لأخطر تساؤل حول النتائج والنهايات العملية لأخذنا بهذا المنهج وإعادة طرح المعرفة الدينية مجدداً بوجه المعرفة الوضعية. هل يعني ذلك أننا أمام مشروع إسلامي حضاري عالمي يستوجب التنظيم؟
يجب أن ندرك مسبقاً أن معركة الدين ضد الوضعية، حتى في حال الطرح الديني المعرفي المنهجي بطاقة القراءتين في القرآن، واتساع الفهم لجدلية الغيب والإنسان والطبيعة، هذه المعركة ليس من شأنها أن تُحسَم في هذه الدنيا التي أحيانا الله فيها مرتين وأماتنا مرتين، أو يحيينا ويميتنا طالما أننا لا نتذكر النشأة الأولى، فالغالب على الناس هو عدم الاستجابة بالرغم من الرسل والنبيين، الأمر الذي اقتضى تدخل الله مرتين: الأولى في الحقبة اليهودية الإسرائيلية والثانية في الحقبة الإسلامية العربية ضمن منطق الاصطفاء للأقوام والأمكنة فكان النصر في الحالتين نصراً إلهياً وليس بشرياً والحالتان يستحيل تكرارهما فكل ما نفعله عبر جهدنا المعرفي هو أن نحافظ على إرث التأسيس وأن ندعم بنيانه ولا يتبقى منه بعد ذلك سوى التدافع العربي-الإسرائيلي تحت المظلة الإسلامية اليهودية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ﴿وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾([8]). فالسابقون السابقون هم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ولا يبقى بالتساوي إلا أصحاب اليمين بعد أن يستكثر الجن من الإنس. فكل ما في الدنيا هشيم تذروه الرياح، وغالباً ما يفشل البشر في اكتشاف طريق الحق أو يكتشفونه ويرفضونه.
قد سخر الله للإنسان ومنذ بدء استخلافه الآدمي مستويات ثلاث، في عوالم ثلاث: عالم الأمر والملأ الأعلى حيث كان آدم وهبط دون ذلك، ثم عالم الإرادة حيث كان بنو إسرائيل، القرية الرغدة وشق البحر وهبطوا دون ذلك، ثم عالم المشيئة وهبط العرب دون ذلك، فترى الفتن والخطوب علهم يرجعون، وجزاء كل سيئة مثلها إلا من رحم ربي. فقاعدة المفاهيم الإسلامية لها نسقها الخاص وحضارتها الخاصة. غير أن أوضاع مجتمعات ما بعد الصناعة والاستقطابات العالمية للإنسان لم تفد في حل مشكلاتها عبر القياس على المجتمعات البدوية والرعوية والزراعية والتجارية والحرفية ما قبل الصناعة.
ولذلك ركز الخطاب القرآني بتوسع على الحالتين الإسرائيلية والعربية بنفس المستوى تقريباً الذي ركّز فيه على حال الأقوام من بعد نوح حتى شُبِّه القرآن لدى البعض بأنه يولي تلك الأقوام الحيّز الأكبر من اهتماماته تاركاً لمن تبقى متاهات تتعلق بالتأسي والامتداد، ومنهم من قال: إنه خطاب عربي أو يعنى بالحقبة النبوية الشريفة وما قبلها ولا يتطرق لما سيأتي في مستقبل متغيرات الأزمنة والأمكنة. كما أن التركيز هو دائماً على مواجهة الشرك الصنمي البواح، والتأكيد بعد ذلك على وحدانية الله والبعث الأخروي وطرح موجبات العبور الصالح في الدنيا. فكأنما القرآن هو مستودع هذه الرباعية فقط (نبذ الشرك –وحدانية الله- العمل الصالح- البعث الأخروي).
فالأمثلة القرآنية أمثلة تخاطب مجتمعات ما قبل الصناعة وتركيب الأسرة الزراعية والريفية القبلية، وحتى البحرية التي تقوم على الصيد ومسخرات الحمير والبغال والخيل، وتخوف ركوب البحر، حتى أن القرآن ليتماهى مع بعض المظاهر الاجتماعية والسلوكية في تلك المجتمعات ما قبل الصناعة؛ إذ لم يتطرق لتحريم الرق بالمستوى الذي حرّم به لحم الخنزير، أو تعدد الزوجات، وبدا أنه يقر دونية المرأة في الشهادة مع فرض الخمار عليها إلخ… ما يجعل فقهاء الإسلام المعاصرين في حرج من أمرهم تجاه المشكلات النوعية المتجددة؛ بحيث إن الفقيه المتمكن الذي يُستشهد بآرائه هو فقط من يكون قادراً على فهم واسترجاع أحوال تلك المجتمعات السالفة ثم الاجتهاد في المشكلات المعاصرة بالقياس عليها وهكذا أصبح “القياس” أحد الأصول بعد القرآن والسنة والإجماع.
إضافة إلى أن “فرض” الدين على المجتمع بالمواصفات التاريخية السابقة يحتاج إلى تدخل إلهي، سواء أكان تدخلاً محسوساً ملموساً كما كان في الحقبة اليهودية الموسوية، أو تدخلاً غيبياً كما كان في مطلع الحقبة الإسلامية الأمية المحمدية الأولى. ويجب أن نلحظ بوضوح أن كافة النبوّات لم تجد الاستجابة المطلوبة من الشعوب والأقوام ما عدا نبوّة موسى ونبوّة خاتم الرسل والنبيين، وأتى الاستثناء عبر التدخل الإلهي، المحسوس ثم الغيبي: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ﴾([9]).
فالذي يتبقى من الدين هو إرث عام يتداخل مع الطبائع البشرية ومكونات العرف والثقافة إلى مستوى التحريفات في كثير من الأحيان، أي تحول الدين من معرفة إلى أيديولوجيا تخالطها الكثير من الأفكار.
غير أنه يتبقى أمر واحد للحفاظ على الدين، وهو التدافع الذي من دونه لهدمت دور العبادة، وليس خربت بفعل المعارك العسكرية. والهدم إنصراف، بالتدافع تبقى جذوة الدين عبر العصبيات: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾([10]). هذا تدافع عالمي عام غير أن التدافع الأكثر فعالية هو التدافع الخاص ما بين العرب تحت مظلة الإسلام والإسرائيلين تحت مظلة اليهودية أياً كان فهم المتدافعين لدينهم في إطار التثبيت العصبوي. ويرتبط الأمر هنا باصطفاء الأرض والبشر ومحددات الزمان والمكان –كما ألمحنا سابقاً- هكذا نجد:
أن إعادة إنتاج الحقبة النبوية الشريفة بالنسبة للمسلمين، أو إعادة إنتاج الحقبة الموسوية بالنسبة لليهود، وبالقوة البشرية الذاتية في ما تطرحه الحركات القائمة اليوم أمر خارج موجبات ومقومات ما تبقى من الإرث الديني العام.
غير أن هناك ممكناً ملحاً وضرورياً يُستنهض تلقائياً وبتقدير إلهي بموجب التدافع العربي-الإسلامي بوجه الإسرائيلي اليهودي، كما أوضحت مقدمة سورة الإسراء ونهايتها ومقدمة سورة الحشر، وهو التمسك بالدين نفسه على أن يتجه علماء الأمة لترقية وإحكام ثوابت هذا الدين، بداية من التأكيد على القيمة المعرفية للإيمان بالله الواحد الأحد لإظهار الرؤية الكونية التي يرتبط بها مصير الإنسان الكوني منذ ما قبل ميلاده وإلى ما بعد موته، كبديل عن الرؤية الوضعية. وهنا يأتي دور إسلامية المعرفة متى فُهِمَت في إطار القرآن ومطلقه، وبما يعادل مطلق الإنسان ومطلق الوجود، وعبر الجمع بين القراءتين والاستهداء بالعلاقة الجدلية ما بين الغيب والإنسان والطبيعة واسترداد العلم من براثن القبضة الوضعية، حيث يتعزز الدين حين يحلق العلماء بعلمهم في رحاب الكونية والكون:
﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾([11]). ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾([12]).
ولكن حين يجنح بعض الوضعيين لاستلاب العلم باتجاه الشيئية بما في ذلك تحويل الإنسان إلى شيء وتجريد العلم من كونيته ندخل جميعاً في البوتقة الظلامية، فيأتي الدين مجدداً ليسترد بضاعته بنفي الوضعية عنها، وهذا هو أساس إسلامية المعرفية؛ أي المعرفية الكونية غير الوضعية.
وقد بدأت الحضارة الغربية –كما ذكرنا- في ارتياد أولى مسالك الطريق ولكن ليس باتجاه الكونية بعد، ولكن بحصار الوضعية كفلسفة للعلوم الطبيعية والإنسانية بداية بحلقة فينا وامتداداً إلى مدرسة فرانكفورت…والظاهر في الأولى (فينا) التركيز على تفكيك دغمائية العلوم الطبيعية، كما أن الظاهر في مدرسة (فرانكفورت) تفكيك المادية الوضعية الجدلية. غير أن هذا التفكيك ذو الطبيعة الإبستمولوجية المنفتحة لازال في إطار الوضعية ولم يتم التخلص منها بعد.
فحين يسترد الدين المعرفة العلمية إليه باتجاه الكونية ويبرئها من الوضعية يكون قد قام بعملين مزدوجين في كل واحد، فمن ناحية يدين الصراع اللاهوتي المسيحي مع العلم، ومن ناحية أخرى يدين توجهات الوضعية في العلم، فلا تكون المعرفة بعد ذلك إلا إسلامية، مبرئاً الدين من اللاهوت بذات الوقت الذي يبرئ فيه العلم من الوضعية.
فمشكلة الوضعية أنها قيَّدت العلم بمخططها الذي رفض التعامل مع الظواهر التي لم ترتق أدواته للتعرف عليها وقياسها مخبرياً، وفي حمى رفضه لها يتناسى أنها ظواهر حية في حين أن مهمة العلم الدائمة أن يتعرف على ما لم يتعرف عليه بعد، وإلا أصبح العلم مالكاً للحقائق وكفّ أن يكون علماً.
فنحن في عصر العلم والعالمية وقد تغيرت نوعياً إشكاليات الفكر والواقع. هنا تقف إسلامية المعرفة بكامل أطرها المنهجية لتطرح البديل المتجاوز للوضعية في عصر العلم والعالمية؛ حيث نعيد فهم ديننا وفي هذا الإطار بوصفه “عالمية خطاب”، “وحامية كتاب” و “شرعة تخفيف ورحمة” بتوجه إلى كافة مجتمعات العالم المعاصر، باستيعاب وتجاوز لكافة المناهج المعرفية والأنساق الحضارية، وبما يؤمِّن التداخل بالوعي مع إشكاليات العالم المعاصر والتي لا تجد حلاً موضوعياً لها إلا بانتقال الإنسان من سجن الوضعية إلى آفاق الكونية، عبر كتاب كوني هو القرآن بالذات.
هذه هي الكلية الضابطة لنسيج قواعد المفاهيم التي نستمدها من القرآن، وعبر الاستنباط وإعمال القراءة الأولى للإحاطة بالمتغيرات خلافاً للخطاب القرآني المبسط والمباشر الذي توجه للأميين العرب في حينها؛ أي خطاب ما قبل المنهجية المستمدة من القرآن نفسه وقبل استكمال الوحدة العضوية المتداخلة للعالم أجمع وما قبل الصناعة؛ ولهذا قلنا بالعالميتين: الإسلامية الأمية الأولى، ثم الإسلامية العالمية الثانية، واستنادها إلى منهجية القرآن بمستوى معرفي معاصر، والإرث عن خاتم الرسل والنبين، وليس رسالة ثانية وذك بموجب سورة فاطر (الآيات 31 و 32) وبحكم مجيدية القرآن ومكنونيته وكرم عطائه المتجدد.
إن تفعيل هذه النقاط، أو المرتكزات أو الأساسيات يتطلب جهداً (جماعياً) من ناحية ومؤسسياً من ناحية أخرى. وقد قامت
rahmani yassine- عدد المساهمات : 252
نقاط : 362
تاريخ التسجيل : 02/08/2009
العمر : 41
الموقع : http://rahmaniastro.wordpress.com/
مواضيع مماثلة
» إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية -4- هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
» إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية -5- هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
» إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية -7- هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
» إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية -3- هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
» إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية القراءات التي تستصحب في هذا البحث هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
» إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية -5- هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
» إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية -7- هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
» إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية -3- هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
» إسلامية المعرفة: المفاهيم والقضايا الكونية القراءات التي تستصحب في هذا البحث هدية مني إليك يا بلال الشعرواي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى